الأحد، 30 أغسطس 2015

قاضي الزمان ـــــــــــــــــــــــــ للأديب / محمد شعبان


قاضي الزمان
ـــــــــــــــــــــــــ
للأديب / محمد شعبان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
حكى مَنْ شاهدوه كيف كان يهرْولُ مذبوحًا والدماء تسيل من رقبته ناحية ضوء سيارة مبهر يفضح أسرار الظلام الحالك .. وصلَ للسيارة منهكَ القوى مخضّبًا بدمائه بعدما توقفتْ فتلقَّفه أصحابُها مذعورين .. سقط على وجهه كالثور يلفظ أنفاسه الأخيرة.. يشير بيده .. كاد ينطق اسم القاتل .. مات .. بينما القاتل يجري بعيدا بعدما ألقى السكين وجلبابا كان يرتديه على كوم من القمامة . 
هذه ثاني جريمة قتل تتم إثر خلاف حاد بيني وبين المقتول ولذلك كانت أصابع الاتهام تنطلق إليَ دون هوادة ـ مع أن تكويني الجسماني الضعيف لا يمكنِّي أبدا من القضاء على عملاقين كهذين، ولا أملك مثل ما لديهما من سلاح ورجال وحصانة !، لكن ربما .. فلقد كشف الطب الشرعي أنهما كانا مخمورين .. وتمَّ استدعائي للنيابة للمرةِ الثانية ومَثُلْتُ أمام وكيل النيابة في ذات المكان الذي أعمل به، فأنا الكاتب الذي تراه يجلس دائمًا بجوار وكيل النيابة يُسَجّل كل نَفَس يصدر في الغرفة، يعني مجرد موظف مسكين اضطرته الظروف المعيشية أن يسكن في إحدى العشوائيات التي تغص بها البلد ويحتلها ( البلطجية ) وتجار البانجو والعاطلون، وفي هذا البيت المتداعي الذي تأنُّ جدرانه بما جمعت عليه من آلام وأحزان ساكنيه أسكنُ أنا وأمي المسنة المقعدة التي لا مُعيل لها سواي بالطابق الثاني العلوي .. 
الثور الأول ( هههههه ) أقصد المقتول الأول ( مدكور ) ( البلطجي ) ـ أجحمه الله ـ كان مسيطرًا على منطقة ( الكوبانيه ) وما حولها من أزقة وحارات هو وحاشيته وله صلات عديدة برجال أعمال ومسئولين كبار .. يقوم لهم بخدمات قذرة على كل لون ويخلص لهم مصالح من كل نوع ما داموا يدفعون المقابل وبسخاء .. أجْبر ( مدكورٌ ) (عمَّ زغلول ) أبا خطيبتي على فسخ الخطوبة معي وهدده بطرده من الحارة هو وأولاده الصغار إذا لم ينصع لأمره .. كانت ( إيمان ) تحبني حبًّا جمًّا .. كانت تعمل بمحل ملابس بجوار ( المحكمة القديمة ) وكنت أمر عليها وأنا رائح إلى البيت .. تواعدْنا على الزواج واتفقنا على الزواج العام القادم تفاؤلا بعام ألفين، وتفاهمنا على كل شيء .. ( إيمان ) بنت جميلة جدًّا بكل مقاييس الجمال، ورغم وجودها في هذا الحي الغارق في وحل الأوبئة الأخلاقية إلا أنها بمائة رجل ـ كما يقولون ـ وكأنها زهرة في مستنقع آثام .. وقفتُ أمامَ ( مدكور البلطجي ) بدون تردد، وطالبته أمام الناس في الحارة بالابتعاد عن طريق ( إيمان ) و( عم زغلول )، وحذرته أنَّ عاقبة أمره ستكون خسرا إن هو أصر على فسخ خطبتي منها، وألْمحتُ له أنني أعلم الكثير عن أعماله القذرة التي يتخذ مقهاه ستارا لها، وأستطيع أن أبلغ عنه الشرطة .. عندها ضحك ضحكة عالية ساخرا من كل كلامي ما انفكت ترن في أذني حتى الآن؛.. اختطفني ليلةً كاملة في مكان مجهول، حتى أني لم أعرف أين أنا ؟! ، وتعرضت لأسوأ أنواع المعاملة والتعذيب؛ ضربٌ وصعقٌ بالكهرباء وإغراقٌ في برميل الماء وصلبٌ وغيره ، وهددني بطردي أنا وأمي من الحارة؛ ليس فحسب، بل سيطردني بفضيحة على مقاسي ! وقتها عرفت أن الفضائح بالمقاس ولها حبَّاكون ... أفقتُ على سرير بأحد المشافي الحكومية وأبلغوني أن أمي بالعناية المكثفة منذ غيابي بسبب خوفها عليَّ، طبعًا لم أستطع الإبلاغ عن ( مدكور البلطجي ) .. (مدكور ) له صِلاته، وعلاقاته، وكذلك محاموه يخرجونه من كل قضية مثل الشعرة من العجين، ثم إني لن أستطيع إثبات أي شيء، بل ربما يقيم ضدي دعوى تشهير وإساءة سمعة وسب وقذف؛ لكونه أمام القانون من الشرفاء الذين يحميهم القانون .. قُتل ( مدكور البلطجي ) بعد هذه الحادثة بأسبوع تقريبًا ، وحينَها وقفتُ أمام وكيل النيابة يبدوعلىَّ الفرح والسرور، بل صرحَّت قائلا :ـ لا يوجد أحد يتمنى موت مدكور مثلي، إلا أن وكيل النيابة أمر بعدم كتابة هذا الكلام ، فهو يعلم أن طبعي الهادئ وسلوكي المسالم لا يسمحان لي بمثل هكذا عمل، وأخلى سبيلي من ( سراي النيابة ) لعدم كفاية الأدلة، ولأن محاميَّ قدَّم كل الدلائل والقرائن التي تنفي صلتي بالجريمة، وقُيِّدت الجريمة ضدَّ مجهول .. العجيب أنَّ أحدًا منا لم يفز بـ ( إيمان ) ، ولا أعرف عنها شيئًا حتى الآن ومنذ خروجي من المشفى .. علمتُ أنها مُنعتْ من السؤال عني .. هرَبَتْ من الحارة مع أبيها وإخوتِها الصغار قبل قتل مدكور بأيام قلائل .. 
أما المرة الثانية فالمقتول كان ( سيد الخُبُؤْ ) أخا ( مدكور البلطجي ) ونادل المقهى .. كان ( مدكور ) يعامله معاملة العبيد .. يذله، ويحقره أمام الجميع ،لكن فجأة بعد موت ( مدكور ) أصبح ( سيد ) نسخةً مكررة من أخيه وسرعان ما التف حوله رجال ( مدكور) واحتواه رجال أعماله والمسئولون الكبار، وشيئا فشيئا تحوَّل ( سيد الخُبُؤْ ) إلى ( سيد الحوت ) واغتصب المقهى من (وردة ) زوجة ( مدكور ) وأولادها، بل وتزوجها بالإكراه بعد فترة من الرفض والتمنع؛ الأمر الذي اضطره لحصارها ومنع المصروف عنها وعن أولادها ،فجوَّعها، وكذلك حبسها عن الخروج وعيَّن حراسة مشددة من رجاله عليها .. لا تجرؤ نملة على الدخول أو الخروج !، وعندما حضر بعض أقارب ( وردة )، ومعهم ( بلطجية ) من منطقة ( المَحْصَرَاوِيَّه ) جعل منهم هو ورجاله المدججون بالسلاح الأبيض والخرطوش والآلي مُثْلةً في الحارة، وكانت مذبحة .. ليلتها غزا الفزع كل البيوت، ولم يستطع أحد مجرد النظر من نافذة بيته، وعاد من تبقى من أقارب ( وردة ) أدراجهم بخُفِّي حنين، ولم يستطيعوا لا حماية أنفسهم، ولا تخليص ابنتهم وأولادها الصغار من قبضة ( سيد الخبؤ ) .. طبعا ( سيد الخُبُؤْ ) هذه المرة بيني وبينك فهو لم يعد يحب أن ينادى بهذا الاسم .. الله يجعل كلامنا خفيفا عليه ... ( هههههه ) لقد نسيت أنه مات ـ أجحمه الله هو أيضا ـ ... وكانت ( وردة ) قد أمستْ بمثابة مِلْكِ يمين لـ ( سيد الحوت ) .. يوميًّا يتهجم عليها أمام عيون صغارها ويغتصبها وهي تقاوم وتصرخ بلا مغيث؛ فالبيت محاصر بـ ( السِّنَجِ والآلي والخرطوش )، حتى رضخت ( وردة ) وتزوجها بالغصب والقهر ، قابلْتُ (عم محروس المأذون ) عندما حضر ليُسجل قسيمة الزواج ، وحكى لي كيف ساقه رجال ( سيد الحوت ) قسْرا من مكتبه لغاية بيت ( وردة ) ـ مُهَدَّدًا بتدمير مكتبه وبيته ولن يجيره أحد ـ ، وكيف وجدها قاعدةً بلا حول ولا قوة يَطْمِسُ جمالَ وجهها وإشراقَه آثارُ تعذيب وكدماتٌ وهالاتٌ سوداء .. ممزقة الثياب .. شاردة الذهن .. بالكاد هزت رأسها ـ الذي لم ترفعه أصلا ـ لتعلمه أنها موافقة ... وكيل النيابة في المرة الثانية سألني 
:ـ لماذا تشاجرْتَ مع القتيل ( سيد الحوت ) أمام المقهى ؟ 
:ـ لأني شاهدته يسلط رجاله على ( جاسر) ابن أخيه ليجبروه على ممارسة أعماله المشبوهة، وكاد رجاله أن يفتكوا بي لولا حملةُ تنفيذ الأحكام التي ظَهرتْ فجأة، فهربوا جميعا كالجرذان ولم يُقْبَضْ على واحد منهم . 
:ـ وماذا تعرف عن هذه الأعمال المشبوهة ؟ .
:ـ الناس كلهم يعرفون فيم يتاجر ( سيد الحوت ) ؟ وماذا يدور داخل المقهى؟، وهذا لا شأن لي به ـ يا سيادة الوكيل ـ ، لكن منظر الولد الذي لم يكمل الخامسة عشرة استفزَّني، وقاتل اللهُ تلك الظروف التي توقعني في هذه الورطات القاصمة حيث لا ناقة لي ولا جمل، لكن نفسي تأبى أن ترى الخطأ ولا تعير له انتباها ... وللمرة الثانية يخْلَى سبيلي من ( سراي النيابة ) لعدم كفاية الأدلة ... وللمرة الثانية أشعر بسعادة بالغة لأن القدر وضع نهاية لطاغية جديد ... 
مررتُ أثناء عودتي بشباك شقة ( إيمان ) بالدور الأرضي الذي ما زال مغلقًا على ذكريات أيام جميلة نشأت ثم وَلَّتْ في نفس البيت الذي سكناه .. تلك الفاتنة المفعمة بالحيوية والجمال والرشاقة ... كان مجرد النظر لوجهها الوسيم القسيم ينسيني ما أكابده، وما يَرِدُ عليَّ من مشكلات .. يوميًّا لصوصا وهجَّامةً ومرتشين وقتلةً .. أكتب قصصهم بقلمي، وكثيرًا ما أسرح بعقل قاضٍ لا يقرأ الأوراقَ فحسب، إنما يعيش القضية بكل تفاصيلها بجميع حواسه ويرى ويُعاين .. أينَ أنتِ الآن يا ( إيمان ) ؟ ليتكِ تعودين؛ فقد صفا الجو من كل غيومه المنغصة ... وقبل أن أدلف للبيت التفتُّ فجأةً على صوت ( جاسر) وحوله رجال أبيه وعمه ( البلطجية )، وأهل الحارة يتسمَّرون أمامه على شكل مربع ينقصه ضلع يزعق قائلا:ـ الكل لابد أن يعرف أن الحارة لها حاكم، وأنا الكبير من الآن ...لم أندهش لقولته بقدر ما تعجَّبْتُ من منظر أهل الحارة وهم أضعاف عدد ( جاسر ) ـ طاغيةِ الحارة الجديد ـ وزبانيتِه، ويسلمون هاماتهم للتراب كالعبيد ...
( إمْمْمْمْمْ ) ليس الآنَ ـ يا جاسر ـ لكن يومًا سأكتبُ قصتَك ، ثم أُصدر عليك الحكم المناسب، وأنفذه عليكَ كما أمْضيتُه على مَنْ سبقَاكَ .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق