الاثنين، 31 أغسطس 2015

نواقيس خرساء....للأديب / محمد شعبان ...مجلة فيتارة القلم الذهبى





نواقيس خرساء....
---------؛-----
للأديب / محمد شعبان 
--------؛---------
فقط في الأيام التي أذهب فيها للعمل، وخلال السويعات القليلة التي أقضيها فيه ، ولا تسل لماذا ؟ .. فمن منَّا يكتفي بعمل الحكومة ولا يعمل عملا إضافيا ؟، ومع ذلك أتعرَّضُ لكمٍّ لا حصر له من المشكلات الاجتماعية التي أجد نفسي عاجزًا عن إيجاد حلول لها نظرًا لقلة الدعم المادي والفني لي كـ ( إخصائي اجتماعي ) ، وجُلُّ الحالات إن لم تكن كلها أقف أمامها مكتوف اليدين عاجزًا مكتفيا بلعب دور المستمع الشفوق الذي يمصمص شفاهه ويقلب كفيه ويواسي ببعض الكلمات الحانية، ولا يَخْفَى أن كثيرا من (الإخصائيين الاجتماعيين) يجدون أنفسهم مطالبين بحل مشكلات هي نتاج أزمات اقتصادية واجتماعية مزمنة، وهم أنفسهم يعانون أكثرها على الصعيد الشخصي ، وهل نحن سوى أعضاء داخل تلك المنظومة المجتمعية ... لكنني لم أتأثر بحالة بحثية مثل تأثري بحالة ( مريم ) .. قصة من آلاف القصص أو ناقوس من آلاف نواقيس الخطر الخرساء التي لا مجيب لها، ... أخذتْ ( مريم) تحكي مشكلتها بثبات انفعالي لم أر له نظيرا .. لُوحظ على سلوكها عدوانية شديدة مع كل زميلاتها حتى مع اللاتي يتَّسمْن بالهدوء منهن .. طفلة لم تتجاوز الرابعة عشرة بعد .. وجهها المشرق القسيم ذو البشرة البيضاء وعينها الخضراء وقوامها الممشوق يجعل منها مشروع ملكة جمال بلا نِدٍّ .. دائما تتذكر أمها التي ماتت منذ ستة أشهر أثناء الولادة مواقف لا يُملُّ سماعُها من قاصرٍ فقدتْ أعز ما كانت تملكه في هذه الحياة الشقيَّة، حديث ترويه الشجون ويتملكه النشيج .. كانت وأمها بمثابة صديقتين تذوب في اجتماعهما وتفاهمهما كل الأزمات التي تعانيانها .. لم يكن لإحداهما سوى الأخرى خاصة مع أب يخرج إلى المصنع مع أول ضوء ويعود مع آخره خائرَ القوى يتناول طعامه ويرتمي على سريره جثةً هامدةً حتى مطلع الفجر ـ كحال السواد الأعظم من أرباب البيوت ـ ، كانت تحبس نفسها رُعبًا كل ليلة منذ عودته إلى أن تنخمد غضبته الليلية على أمها المسكينة المريضة، ثم تقوم ( مريم ) متسللة حيث تقبع أمها تحت همومها وأحزانها، فتُمَسِّد حزن أمها بيديها الناعمتين وتحتضن همومها حتى تهدأ .. مطالبته بخِلْفَةِ الولد لا تنقطع، مع علمه أن الحمل والولادة ربما يقْضيان على حياتها، وأمام طلقات تهديداته بالزواج من غيرها، والضغوط العصبية التي يُخَلّفها زعيقه الذي كان يتطور كثيرا لمدِّ الأيدي والصفع، وخوفها من تدمير أسرتها على يد ضرة يجلبها للبيت عنوةً أو ينتقل إليها ويختفي تماما .. حبلت المسكينة صاغرةً، ومرَّتْ شهور الحمل وئيدة شاقة على جسد يسكنه الوهن بين الرقاد التام وزيارة الأطباء، وأكثر من مرة تبيت بالعناية المكثفة بسبب تدهور حالتها الصحية، ثم ماتت، وحرم ذلك المستبدُّ الأناني ( مريم ) من أمها الرؤوم التي ما أحبت مثلها في حياتها بعدما أنجبت له الولدَ بغيتَه الحقيرة، الذي ربما يصبح في يوم من الأيام سببا في إصابته بجلطة دماغية إن شبَّ عاقًّا لأبيه .... كَرِهَتْهُمَا كرهًا شديدًا هو وولدَه الحقير البغيض لأنه وأباه ـ كما تراهما هي ـ السبب الرئيس في حرمانها من أمها الحبيبة .. وشعور الوحدة والوحشة من بعد وفاتها بات رفيقها اللدود ..كانت ترفض رعاية الرضيع وتغيير ملابسه ، أو حتى مجرد النظر إليه، وتهمله بالساعات يبكي ويصرخ إلى أن تغيثه إحدي الجارات، وهذه الجارة لها دورها المؤثر في حالة ( مريم ) وما آلت إليه .. يعود الأب ليلا ليجعل ليلة ( مريم )جحيمًا ضربًا وشتمًا وسحلا حتى يجبرها على إطعام الرضيع والسهر معه؛ لينامَ هو ملءَ جفونه غارقًا في شخيره وضراطه بعدما يعود من شقة الجارة العزباء( ها ؟! ) من شقة الجارة العزباااااء ! .. الوحيدة .. التي تعيش بمفردها في تلك الشقة الطويلة العريضة التي ورثتها عن زوجها العجوووووز الذي تزوجته في أواخر أيامه .... ( آااااا)! ، يعود بعدما تجهز له العشاء وتطعمه وتطيب خاطره وتهدئ غضبته، ( وْوْوْوْ ) وما خفي كان أعظم ( إمْمْمْمْ ) ! .. وبعد الليلة الأربعين من وفاة أمها تزوج أبوها من الجارة العزباء وعدوَّةِ أمِّها التي طالما ناكدتها وكادتها بجمالها ومفاتنها التي تغري الرجال لاسيما زوجها .. وبدأت رحلة معاناة جديدة لـ ( مريم ) مع زوجة أب كارهة ومسيطرة، وأيضا ( أَأَأَ) ..فَوِّتْ هذه الآن سأَدَعُ ( مريم ) تقول هذا !! .. لم تتفاهما هي و ( مريم ) لحظةً .. ويحضر الأب ليلا، فتستقبله زوجته بالشكاية من ( مريم ) وسوء معاملتها لها وإهمالها لأخيها الرضيع ، وتلمح له أنها على وشك الانفجار، ولم يعد لها طاقة بهذا الوضع وأن الحال لو استمر على ذلك ستطلب الطلاق؛ ليقومَ هو إلى ( مريم ) ـ كالثور الهائج ـ وقد صرَّحت له بسوء أخلاق زوجته وعلاقتها بالشاب الذي يوصل الطلبات للمنزل، وأنها تستقبله في شقتها المقابلة لشقتهم أثناء غيابه، لكنه لم يصدِّقْ حرفا من ذلك على زوجته أبدا واعتبره محض فرية تختلقها (مريم) على واحدة حلَّت محل أمها، وترغب في التخلص منها .. الأمر الذي كان يزيد من عقابه لها وغضبه عليها .. لم تجد ( مريم ) بُدًّا من التخلص من هذا الوضع المزري .. أبٌ ورضيعٌ تراهما سببا أساسا في قتل أمها ، ومومسٌ احتلت مكان أمها الطاهرة .. لم تأخذها شفقة بهم جميعا ولا بهذا الرضيع الذي لا حول ولا قوة .. حكمت على الجميع بأنهم مذنبون ويستحقون العقاب، وقررت تنفيذ الحكم بنفسها، والتخلص من الجميع بالسمِّ دسَّتْه في الطعام لأبيها وزوجته ، وفي حليب الطفل أيضا، وطلع النهار على هؤلاء في المشرحة ، و(مريمُ) القاصرُ نزيلةُ المؤسسة ( إصلاحية الأحداث ) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق