الجمعة، 15 يناير 2016

** .. رياحُ الحنين .. ** // بقلم / حنين فيروز // مجلة ~ فيتارة القلم الذهبي

 ________قصة قصيرة ________ 
رياحُ الحنين
_مَن هناك ؟
اشرأب رأس الحارس من نافذة الكشك الضيقة،تحركت عيناه يمينا ويسارا قبل أن يحك رأسه ويتمتم بسخط :
_لاشك أنها مجرد قطة ضالة..
عاد إلى مكانه يشاهد التلفاز باهتمام،وسمع نفس الخشخشات ثانية،هز كتفيه بلا مبالاة ..
بمحاذاة الشجيرات الجانبية داخل الوحدة السكنية لموظفي قطاع الماء والكهرباء كانت تمشي (عالية) بخفة ورشاقة،في منتصف تلك الليلة الخريفية،كان الصمت يطبق على المكان، لا صوت يشق سكونه سوى حفيف الأشجار ومواء القطط ..
توقفت (عالية) برهة لتلقط أنفاسها،جالت عيناها في تلك البيوت المتراصة التي ينبعث من بعض نوافذها أضواء خافتة، ودت عيناها لو قفزتا من محجريهما لتسبقا أقدامها وترى ذلك البيت الذي جاءت لأجله من بعيد..
أخيرا وصلت إليه،نظرت إلى الحديقة الأمامية التي تمتلئ بالأعشاب الضارة ،لا أثر لأزهارها وورودها الجميلة..
لا بأس،لا يهمها أن يسوء حال الحديقة،بقدر ما يهمّها المنزل ومن داخله،ولكن ياترى من داخله..؟
ابتسمت بسعادة حين رأت الستارة الأرجوانية تتمايل بفعل الريح وهتفت بفرح:
_ستارتي الوفية..!
دفعت باب سياج الحديقة ودخلت البيت بانسيابية من نافذته المشرعة،صمت مطبق يعم البيت ولا يكدر صفوه سوى الدقات الرتيبة لعقارب الساعة ،ما من ضوء ينير المكان،يبدو أن أهل البيت نيام،لكنه بيتها وتعرفه جيدا،كما أنّ أشعة القمر المنبعثة من النوافذ ستجعل تنقّلها فيه غايةً في اليسر..
علا فجأة صوت بكاء رضيع من الغرفة الجانبية،فخفق قلبها بعنف،أضيئت الغرفة الأخرى،تراجعت إلى الوراء بسرعة،وجاء زوجها على عجل يرتدي منامة تجعد ثوبها وبهت لونها،يمسك رضاعة بيد ويدعك عينه باليد الأخرى.. تسللت (عالية) على رؤوس أصابع قدميها وراقبته وهو يحمل الرضيع ويطوف به في أرجاء الغرفة محاولا إسكاته،فركت عيناها غير مصدقة لما تراه نصبها..
هل هذا الرجل هو نفسه زوجها (العربي) غليظ القلب،فظ الطباع،كم يبدو هادئا الآن وحنونا،اكتسحتها موجة من الغضب الممزوج بالمرارة،كأن الماضي بُعث حيّا في نفس اللحظة لترى تلك الصور القديمة..
كلما تعالت صرخات صغيرها إلا وتتبعها على الفور لكزات زوجها (العربي) ووعيد مخيف إن هي لم تنجح في إسكاته في التو واللحظة..الصغير الذي لاشك أنه صار شابا وسيما الآن..
أحنت رأسها بحزن،حانت منها التفاتة إلى الغرفة الأخرى،ونظرت إلى النائمة الغاضبة التي صاحت مغمضة العينين حين تناهى إلى سمعها صرخات رضيعها مرة أخرى :
_ إياك أن تتركه قبل أن ينام بعمق يا (العربي)..!
تردد صدى تلك الكلمات بقسوة داخلها،وهي واقفة بجانب خزانة للأواني في الردهة تتأمل زوجها يهدهد الصغير بلطف بالغ..
دلفت إلى غرفة النوم واقتربت بحذر من صاحبة الصوت الجهوري،وتأملتها بوجوم للحظات،شعرها أشعت قصير،ووجهها لا يزال ملطخا بمساحيق التجميل،لفت نظرها سوارها الذهبي الذي يزين معصم النائمة،فطأطأت رأسها بحزن وهي تتذكر كيف دفعت ثمن ذاك السوار بالكثير من الأشغال اليدوية التي كانت تجيدها وتبيعها لزوجات الموظفين اللواتي يقطن بالجوار..
اقتربت من المنضدة وعدت قوارير العطر،تنهدت بأسف :
_إحدى عشر قارورة !
رجعت بذاكرتها إلى الوراء حين كانت ترجو زوجها (العربي) كي يبتاع من أجلها قاروة عطر واحدة لكن طلباتها مهما كانت وكيفما كانت.. جميعها قوبلت بالرفض القاطع.
تعثرت بحقيبة سفر محتوياتها مبعثرة على الأرض،وأصدرت صوتا أزعج النائمة ،فجرّت الغطاء فوق رأسها لتصيح مرة أخرى:
_(العربي) أنا في حاجة الى الراحة،لا تنس أننا عدنا متأخرين هذه الليلة،أطفئ النور ونم بجوار ابنك !
في تلك اللحظات كان (العربي) يغط في نوم عميق جوار ابنه الرضيع..
أطفأت (عالية) النور وجلست فوق الأريكة بجوار النافذة ،اتكأت على جانبها،وشرعت الستارة الأرجوانية في الغدو والمجئ بفعل الريح ،مداعبة خديها الشاحبين،انسابت عبرات ساخنة على وجنتيها وهي تتذكر جلساتها تلك قرب النافذة تنتظر قدوم زوجها (العربي)،وبين يديها قطعة ثوب وإبرة، وكتيبة من الفكر تطوف بخلدها،وفي طليعتها الأمل في تحسن مزاج (العربي) يوما ما،حينئذ فقط سترجوه أن ترافقه إلى النزهة،شأنها شأن جميع جاراتها في نهاية الاسبوع،وإذا تحجج بقلة المال،ستمده بما ادخرته من بيع المناديل،لكنها تخاف أن يصرخ في وجهها ككل مرة،ثم تراه بعد ذلك يتأنّق للخروج وحيدا..
وستأتي جارتها (ربيعة) لتطلب منها الكحل الذي تجيد تحضيره،وجارتها (رشيدة) لتستعير وشاحها الصوفي،وستخرجان رفقة زوجيهما وستراقبها وباقي الجارات من النافذة بحسرة وانكسار وهن يتأبطن أذرع أزواجهن ،وسترفع رأسها إلى السماء لتهتف بكل حرقة :
_مرة..أريد الخروج رفقة زوجي ولو لمرة !
لكن الأمر يتكرر في كل عطلة ويخرج الجميع ولا يبقى في الحي سواها..
وهرولت السنوات تباعا وهي تمني نفسها أن زوجها العربي غليظ القلب سيحنو عليها ذات يوم ويرافقها إلى النزهة،وستمضي برفقته سويعات جميلة،..
وتحققت الأمنية ورافقها العربي أخيرا،لكنها لم تتأبط ذراعه ولم تمش إلى جواره،بل كانت فوق رأسه في نعش مغطى بثوب أخضر مطرز بخيوط ذهبية إلى النزهة الوحيدة والأخيرة..
لم يفتها حينئذ أن ترى مدى ألم جاراتها وحزنهن لأجلها وتدليلهن لابنها ونفحه بعض القطع النقدية،أما (العربي) فقد توجه رأسا إلى غرفة النوم،وفتح وسادتها المطرزة لإخراج مدخراتها المتواضعة لدفع مصاريف الجنازة..
كانت تأمل أن تلمح دموعا حتى لو تجمدت في مآقيه،يكفيها فخرا أن عيناه قد دمعتا من أجلها..
وضعت يدها على خذها وتساءلت ما الذي أعادني إلى هنا بعد كل تلك السنوات؟..تنهدت بحزن وتابعت تأملاتها..
"عدت أحوم حول الديار التي أملت أن أسعد فيها يوما،لكن لا شيء يثلج الصدر، يبدو أنه لا عدالة حقيقية في هذه الحياة.."
ألقت نظرة أخيرة على جنبات المنزل وصفقت الباب وراءها بعنف، استيقظ على إثره الرضيع باكيا وانتفض والده يهدهده ويلعن الريح التي أغلقت الباب بقوة..
وأقفلت (عالية) عائدة من حيث أتت، وفي طريقها سمعت ضحكات وهمهمات قادمة من بعيد،اختفت وراء الشجيرات قرب عمود النور،ورأت جارتيها عائدتين من نزهتيهما الأسبوعية،يلحقهما زوجاهما،ومرّتا بجانبها وصادف أن كانت عينا (ربيعة) بلا كحل،أما جارتها (رشيدة) فقد كانت تغطي كتفيها بسترة زوجها..!
حنين فيروز
2015/12/19

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق