السبت، 29 أبريل 2017

دستور من خاطرة.......قصة الأديب المبدع......مصطفي الحاج حسين

(( دستور من خاطره )) ...

                  قصة : مصطفى الحاج حسين .

                          -1- 

      استدعى الشّيخ " عوض " حفيده " لطّوف " ، وطلبَ أن يجتمعَ بهِ على انفرادٍ ، وقفَ " لطّوف " أمامَ جدّهِ منقبضاً ، فلجدّه هيبة عالية .
       تمعّنَ الجّدُّ بحفيدهِ بدقٌةٍ ، فأحسَّ " لطّوف " بالعريّ أمامَ نظراتِ الكهلِ الثّاقبة ،
واعتقد أنّ الجّدّ سوف يحاسبهُ على أفعالهِ
السّيّئةِ ، الّتي ذاعَ صيتها في كلّ مكان ، لكنّه قرّر أن يكذّب كلّ التّهم الّتي سيواجهه بها جدّهُ . قال الجّدّ :
- أَمَا آنَ لكَ أن تعقلَ يا " لطّوف " ؟ .
أطرقَ الحفيد برهةً ، ثمّ همس بصوتٍ مرتعشٍ :
- جدّي .. كلّ ماسمعته عنّي كذب وافتراء .
رمقهُ المسنُّ بنظرةٍ صارمةٍ ، وصاحَ :
- أنا أعرف كلّ شيءٍ عنكَ يا مقصوف العمر 
.. فلا داعي للكذب .
تقدّمَ " لطّوف " خطوة من جدّهِ ، دمدمَ :
- صدّقني يا جدّي ... أنا تبتُ منذ زمنٍ عن ارتكاب المعاصي .
       غابت الحدّة عن كلامِ المسنِّ ، تحوّلَ صوتهُ إلى ما يشبه الهمس :
- أنا أريد مصلحتكَ يا " لطّوف " ... إنّ ساعتي اقتربت ، ويجب أن تأخذ عنّي الوكالةَ ، عليكَ أن لا تضيّع هذا الجّاه ، كلّ النّاس سيكونونَ تحتَ إمرتكَ ، فقط تعقّل ،
وتطيلَ لحيتكَ ، وتبدأ بالتّردّدِ على الجّامع .
       قال " لطّوف " الذي أدهشه هذا القول :
- ولكن يا جدّي ... أنا لا أصلح لها ، كلّ النّاس
فقدوا ثقتهم بي .
قذفَ المسنُّ سبحته من يدهِ ، وصفعَ " لطّوف " بنظرةٍ غاضبة :
- أنتَ لماذا لا تريد أن تفهمني ؟! .. قلتُ لكَ أطِل لحيتكَ ، وتردّد على الجّامع ، وسرعانَ ما تعودَ إليكَ ثقة أهل البلدة ، فأنتَ ابن أسياد ، من اليوم عليكَ أن تجالسني كلّ يوم
، حتّى تتعلّم منّي كلّ شيء .
               جلسَ قبالة جدّه الهرم .. وهتفَ :
- جدّي ... أنا أفكّر أن أعمل في التّجارة .
          حملقَ الجّد بحفيدهِ ، ثمّ أشاح وجهه المتجعّد ، ذا اللحية البيضاء :
- أنتَ غبيّ .. عملنا يدرّ علينا ذهباً ، والتّجارة
قابلة للخسارة .

                            -2-

             عندما ماتَ الشّيخ " عوض " ، كانَ
جميع أهل بلدة " الباب " ، يعرفونَ أنَّ حفيده " لطّوف " هو خليفته ، فقد منحه جدّهُ الوكالة ، أمام كلّ النّاس ، في الجّامع
" الكبير " ، بعد صلاة الجمعة .

                           -3-

              تماثلَ وجه " حليمة " للشفاء ، من الحروق التي سبّبها إبريق الشّاي السّاخن يوم سقط فوقها ، لكنّ الصّداع الهائل لم يفارقها ، بل كان يتضاعف ويزداد كلّ يوم ،
و " حليمة " تشكو من الألم الفظيع ، تبكي ،
وحين حازت على اشفاق الجّميع ، قالت جدّتها " الحاجّة ربّوع " :
- علينا أن نعرضها على سيدي " لطّوف " فهو من أولياء الله الصّالحين .
فوافق الأهل على كلام " الحاجٌة " ، وهكذا
أمر الأبّ ابنه " مصطو " أن يذهب إليه ، ويرجوه الحضور .
             منذ اللحظة الأولى لدخول صاحب الكرامة " لطّوف " ، وبعد أن رمقَ " حليمة " بنظرة مستعجلة ، أمر الجّميع بالخروج من
الغرفة ، فتركوه مع " حليمة " .
       طلبَ منها الاقتراب منه ، امتثلت لأمره،
وضع يده على جبينها ، حدّق في عينيها الجزعتينِ ، ثمّ حوّلَ يده إلى خدّها ، راحَ يتمتم بتراتيل مبهمة ، عادت يده لتمسحَ رأسها ، طلبَ أن تخلعَ عنها غطاء الرّأس ، ففعلت ، راحت يده تمسّد شعرها الفاحم ، أخذت عيناه تشعّانِ ، زحفت كفّهُ إلى عنقها ،
تأوّهت " حليمة " إذ ما زالت آثار الحروق تؤلمها ، أخذت أصابعه تجسّ كتفيها ، تصاعدت دمدماته :
- هل يؤلمكِ رأسكِ ؟ .
هزّت " حليمة " رأسها .  عاد يسأل :
- هل مازالت الحروق توجعكِ ؟ .
كرّرت هزّ رأسها ، لكنّ دموعاً حبيسة من عينيها بدأت تنسكب .
- إذاً مرّغي خدّيكِ بلحيتي .
دهشت " حليمة " ، تراجعت ، فصاح :
- مرّغي خدّيكِ بلحيتي ، فلحيتي مباركة .
       اقتربت الصّبية ، لصقت خدّها بلحيته الضّخمة ، ألصق لحيته بخدّها أكثر ، امتدّت
يداه تحتضنانها بعنفٍ ، اشتعلت النّار داخل
عينيهِ ، دمدم :
- هل يؤلمكِ نهداكِ ؟ .
بهزّةٍ من رأسها نفت هذه المرّة .
- هل أنتِ متأكّدة ؟ .
- نعم .
ارتفع صوته المبحوح أكثر :
- هل أنتِ متأكدة ، أم أنّكِ لا تعرفين ؟ .
همست " حليمة " والخوف قد سيطر على كامل وعيها :
- لا أعرف .
امتدّت يده إلى نهدها ، تكوّرت كفّه فوقَ النّهد ، راحت أصابعه تهرس الحلمة ، كان النّهد ليّناً ، دمدمَ لاهثاً :
- افتحي أزرارك .
تطلّعت إلى عينيهِ الجّمريتين .
- قلتُ لكِ افتحي الأزرار .
       برزَ الصّدر الأسمر ، هرعت أصابعه المتوقّدة لترفع الحمّالتينِ ، تأرجح النّهدان ،
قبضت يداه الحارتانِ الرّاعشتانِ عليهما ، اندلعَ اللهب من عينيهِ ، وسرت رجفة في أوصالِ " حليمة " ، حينَ أبصرت وجهه يستطيل ، همهمَ وقد اتّسعَت بُحّة صوته :
- هل توجعكِ بطنكِ ؟ .
- لا .
رفعَ يديهِ عن النّهدينِ ، قال بحزمٍ :
- تمدّدي أمامي .
تجرّأت " حليمة " لتهتفَ :
- قلتُ لكَ بطني لا توجعني .
تراجعَ قليلاً .. تجهّمَ وجههُ ، تقلّصت لحيته وهو يصيح :
- قلتُ لكِ تمدّدي .
تمدّدت كالميّتةِ ، أسرعت يداه لتكشفانِ الثّوب عن بطنها :
- لماذا ترتدينَ هذا البنطال ونحنُ في عزِّ الصّيف ؟! .
لم تردّ عليه ، لم ينتظر جواباً ، تابع رفع الثّوب ، ظهرت البطّن ، تسابقت أصابعه لترفعَ القميص الدّاخلي ، يده تتمرّغ على البطن وتعصرها ، عَلَت دمدماتهِ :
- اللهمّ أرح هذه البطن من الألمِ ، اللهمّ أرفق بهذه النّعومةِ ، بهذهِ الفتنةِ والسّرّةِ ، اللهمَّ مكّني من مساعدتها فهي عزيزة على قلبي ،
اطرد عنها الجّنّ والعفاريتَ والشّياطينَ والأبالسة أولاد الكلب ، اللهمّ أرحني ، فأنتَ على كلِّ شيءٍ قديرٍ .

                            -4-

           عندما سمحَ صاحب الكرامة لأهلِ  "حليمة " بالدّخولِ ، كانَ قد تربّعَ فوقَ اللبّاد وأمسكَ بسبحتهِ .
       سارعت " زهيدة " أمّ " حليمة " لتسأله :
- خير ياسيدي الشّيخ .. طمّني ؟ .
ابتسم صاحب الكرامة ، نظر صوب " حليمة " المصفرّة الوجه ، دمدمَ بعد أن مسّدَ بأصابعهِ على لحيتهِ المشوبةِ بالاحمرار :
- إن شاء الله خير ، لا تقلقي ، أريد فقط أن أبيّت لها حتّى أتأكّدَ ، لهذا أريد شيئاً من أثرها ، كي أضعه تحت مخدّتي عند نومي .
قالت " الحاجّة ربّوع " :
- أعطهِ غطاء رأسكِ يا " حليمة " .
هتفَ صاحب الكرامة بسرعةٍ :
- غطاء الرّأس لا يصلح ياحاجّة .
سألَ الأب باستغراب :
- لماذا لا يصلح ياسيدي ؟! .
- لأنّني أريد قطعة من ثيابها تكون ملتصقة بجسدها أكثر ، ويجب أن تكون هذه القطعة نجسة ، لأنَّ الجّنَّ والعفاريتَ والشّياطينَ والأبالسةَ ، أعوذُ بالله من ذكرهم ، لا يوجدونَ إلّا في الأماكنِ النّجسة والحقيرة .
صاحت " زهيدة " الأمُّ :
- دستور من خاطرهم ، دستور يارب .
تابعَ صاحب الكرامة طلاسمه :
- أريدُ سروال " حليمة " ، فهو أفضل شيء ( للاستخارة ) .

                            -5-

       قبلَ وصول صاحب الكرامة ، طلبت " حليمة " من أمّها وجدّتها أن لا يتركاها معه بمفردها .
قالت الأمُّ :
- صاحب الكرامة لا يقبل أن يتركنا معكِ .
وأجابت الجّدة " ربوع " :
- الجّن والعفاريت والشيّاطين والأبالسة ، لا.يظهرونَ لسيّدنا " لطوف ' إن بقينا معكِ .
أرادت " حليمة " أن توضّح لهما عن أسباب
مخاوفها :
- سيّدنا " لطّوف " له حركات مخيفة .
صاحت الحاجّة " ربّوع " :
- طبعاً .. هكذا هم أولياء الله الصّالحين .
أدركت " حليمة " أنَّ أمّها وجدّتها ، لا تستوعبانِ ما تقصد ، لذلك عزمت على المكاشفة أكثر :
-   سيّدنا " لطوف " ليس من أولياء الله الصّالحين .
       ذعرت الأمّ من هذا القول ، وصاحت الجّدةُ بغضبٍ شديدٍ :
- اللعنة عليكِ ياقصوفة العمر ، أنتِ تكفرينَ 
، قولي دستور من خاطره ، قبل أن يفلجكِ ،
سيّدنا " لطّوف " ابن أسياد .
اقتربت الأم من ابنتها ، وهمست :
- قولي ياابنتي أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم ، ولا تعودي لمثل هذا الكلام ، سيّدنا " لطّوف " قادر على مسخنا جميعاً .

                            -6-

       وصل صاحب الكرامة " لطّوف " ، كان
عابساً ، استقبلته العائلة بقلقٍ وخوفٍ ، قال الأب " الحاج كرمو السّعال " :
- خير ياسيدي .. لقد شغلتَ بالنا ؟! .
     تضاعفَ تجهّم وجهه ، تسارعت أصابعه  
بتلقّفِ حبّات سبحتهِ ذات المئة حبّة ، نظر صوب " حليمة " المنكمشة على نفسها عند الزّاوية ، وقال :
- " حليمة " أحرقت ابن ملك الجّنِّ الأحمر ، يوم أسقطت براد الشّاي ، وهذا ما جعل ملك
الجّنّ الأحمر ، أن يقسم على الانتقام من ابنتكم " حليمة " .
       ندّت عن " حليمة " صرخة ذعر رهيبة ،
توجّهت إليها الأبصار بفزعٍ عظيم ، كانت ترتعش ، فكأنَّ خوفها قد تحوّلَ إلى موجةِ بردٍ قارسة .
صاح صاحب الكرامة وهو يحاول النّهوض :
- اخرجوا من الغرفةِ ، ودعوني أعالجها .

                       مصطفى الحاج حسين .
                          حلب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق